الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلا هادي له. وأصلي وأسلّم على سيدنا محمد أفضل البشر وفخر ربيعة ومُضَر، مَن سلّم عليه الحجر وانصاع لأمره الشجر وانشقَّ لأجلِه القمر، وعلى ءاله وأصحابه الطّيِبين الطاهرين أنصارِ حبيب رب العالَمين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الموجودُ أزلًا بلا ابتداء الباقي أبدًا بلا انتهاء، المنَزّه عن التحيّز في مكان أو أن يجري عليه زمان، سبحانه كان ولا مكان وهو الآن على ما عليه كان، الموصوفُ بكل كمالٍ يليقُ به المنـزّهُ عن كل نقصٍ في حقه، ليس كمثله شىء وهو السميع البصير، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، بلّغَ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، فجزاه الله عنا خيرَ ما جزى نبيًّا من أنبيائه.
أما بعد عبادَ الله، فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله العليّ القدير القائل في محكم كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} [سورة الحجرات: ءاية 12].
اعلم أخي المؤمن أنّ من الواجب على كل مكلّف أن يحفظَ لسانه عن ما حرَّمَ الله فإنّ اللسان كما قال الغزاليّ رحمه الله: نعمةٌ عظيمةٌ جِرمُه صغير وجُرمُه كبير اهـ. والمعنى أن اللسان حجمه صغير إلّا أنّ كثيرًا من الذنوب هي حصيلة اللسان لأنّ الكلام هو أكثر أفعال الإنسان، فلَزِمَ مراقبةُ اللسان لأن كثرة الكلام ولو في المباح قد تجرّ إلى المكروه أو الحرام.
وَقَدْ تَفَشَّتْ في مجتمعاتنا عادَةٌ قبيحة بل ومرضٌ هدّام يفتِك بصاحبه ويُفَرِّقُ بين الأهل ويُباعد بين الأحباب ويقطع الأرحام لما يسبّبه من التشاحن والبغضاء، ألا وهو الغيبة، فما هي الغيبة إخوة الإيمان؟ روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أتدرون ما الغيبة؟” قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: “ذِكرُكَ أخاك بما يَكرَه”، قيل: أرأيتَ إن كان في أخي ما أقول، قال: “إن كان فيه ما تقولُ فقد اغتَبْتَه وإن لم يكن فيه ماتقولُ فقد بَهَتَّهُ“ اهـ. فالغيبة التي حرّمها الله هي أن تذكُرَ أخاك المسلم بما فيه من العيوب وهو يكره أن تذكرَها سواءٌ كان مما يتعلّق ببدنه أو نَسَبِه أو ثوبِه أو دارِه أو خُلُقِه كأن تقول فلانٌ قصيرٌ أو أحوَلُ، أو أبوه دَبّاغٌ، أو فلانٌ سيِّئُ الـخُـلُق أو قليلُ الأدب، أو كثيرُ النوم، أو كثير الأكل، أو فلانٌ أولادُه قليلو التربية، أو فلانٌ تحكُمُه زوجتُه، أو نحو ذلك مما تعلم أنه يكرهُه، وأما البُهتان فهو ذكرك أخاك المسلم بما ليس فيه بما يكرهه، وإثم البُهتان أشد من إثم الغيبة لتضمّنه الكذب.
واعلموا إخوة الإيمان أنّ في قوله تعالى: {وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} نهيٌ صريحٌ عن الغيبة وتحذير بليغٌ منها، فقد شبّه الله تبارك وتعالى غيبة المؤمن بأكل لحمه مَيْتًا، وكفى به زاجِرًا عن مثل هذا الإثم القبيح.
وروى أبو داود عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لّما عُرَج بي –أي ليلة الإسراء والمعراج- مررتُ بقوم لهم أظفار مِن نُحاس يَخمِشونَ وجوهَهم وصدورَهم فقلتُ من هؤلاء يا جبريلُ قال هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس – أي يغتابونهم – ويقعون في أعراضِهم” اهـ. وفي ذِكر هذا تحذير من الوقوع في الغيبة حذرًا مما يترتّب على فعل ذلك من العقوبة في الآخرة.
ومن الجهل القبيح إخوة الإيمان قولُ بعض الناس إذا نُهوا عن غِيبةِ المسلم: ” إنّي أقولُ هذا في وجهِه ” فهؤلاء ما عرَفوا معنى الغيبة الذي بيّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: { ذِكرُكَ أخاك بما يكرَه } وكذا قولُ بعضهم إذا أنكرت عليه الغيبة: لكنِّي أقول ما هو فيه، فهذا لم يعلم قوله صلى الله عليه وسلم حين قيل له أرأيت إن كان فيه أخي ما أقول، قال: { إن كان فيه ما تقول فقد اغْتَبْتَه}.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
واعلم أخي المسلم أنه كما يحرمُ قولُ الغيبةِ فإنه يحرُمُ سماعُها أيضًا فمن حضر مجلِسًا يشتغِلُ أهلُه بالغيبة والوقوع في أعراض الناس وجب عليه الإنكار إن قدر على ذلك بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع وجب عليه مفارقة مجلس الغيبة إن قَدَرَ على الـمـُفارَقة مُنْكِرًا ذلك بقلبه ليسلم من الإثم. وفي الجبِّ عن عِرضِ المسلم ثواب غيرُ قليل، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَن رَدَّ عن عِرضِ أخيه رَدَّ اللهُ عن وجهه النارَ يوم القيامة” اهـ. رواه الترمذي
لكن لِيُعْلَمْ إخوةَ الإيمان أن الغيبة قد تكون أحيانًا جائزةً وأحيانًا واجبةً، أما وجوبُها فكالتحذير الشرعي من ذي فِسقٍ عَمَلِيِّ أو بَدعَةٍ اعتقادية ولو لم يصل ببدعته إلى حد الكفر، فيجب التحذير من التاجر الذي يغُشُّ الناس في معاملاته كما ورد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنَّ رَسُولَ اللهَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا فَقَالَ: “ما هَذا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ”. قَالَ: أصَابَتْهُ السَّمَاءُ – أي المطر – يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: “أَفَلا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي” اهـ. رواه مسلم.
وكذلك يجب يا أخي المسلم تحذيرُ صاحب العمل من عامِلِه الذي يخونُه ولا يقولَنّ الواحدُ كما يقول بعض الجهّال احتجاجًا: إن هذا قطْعُ الرِّزقِ على الغير، فإنّ هؤلاء يُؤثِرون مراعاة جانِبِ العبدِ على مراعاة شرعَ الله. ومن الواجب أيضًا التحذير من المتصَدِّرينَ للإفتاء أو التدريسِ أو الإقراء مع عدمِ الأهليةِ لذلك، فإنك أخي المسلم لو علمتَ بقاطِعِ طريقٍ يقطَعُ على الناس طريقَهم ليلًا ويسلُبُهم أموالَهم أو يقتلُهم فما عساك أن تفعلَ، وإن علِمتَ بمسلِمٍ يريد أن يسُلكَ هذا الطريق أليس من الواجب عليك أن تُحَذّرَه وتُخبِرَه بوجود قاطع الطريق هذا أم أنّك تسكت عن ذلك وأنت تعلم أنه بسكوتِك يلحقُه ضرر ولو نصحتَه لقبِلَ منك؟ بلى يجب عليك أن تُحَذِّرَه وتُنَبِّهَه فإن لم تفعل فأنتَ ءاثِمٌ مّذنِبٌ وكذلك الأمرُ إذا علِمت بوجود شخصٍ يَدَّعِي العلم ويتصدَّرُ مجالس التدريس باسم الدين ويتَفَوّهُ بكلام مخالفِ لكتاب الله وسنةِ نبِيّه صلى الله عليه وسلم وقد التَفَّ حولَه أناسٌ يُعَظِمونَه ويتلَقّفون عنه كلَّ ما يقول ولو كان مخالفًا لشرع الله تعالى فهل يَسَعُكَ أن تسكُتَ مع القدرة على الإنكار وتحذير الناس منه؟ لا يسعُكَ ذلك، بل يجب عليك أن تنصح الناس وتحذِّرَهم منه فالتحذيرُ مما يُدخِلُ النار في الآخرة أولى من التحذير من قاطع الطريق الذي لا يتعدى ضررُه للناسِ دنياهم، وقد قال الشيخ أبو علِيٍّ الدَّقّاق رضي الله عنه “الساكتُ عن الحقِّ شيطانٌ أخرسَ” اهـ. وصَدقَ في ذلك.
وأما جواز الغيبة يا أخي المسلم ففي أحوالٍ منها: حالة استفتاء العالم كأن يحصُلَ أمرٌ مع إنسانٍ يريد أن يعرِفَ حكمَ الشرع فيه فيقول مثلًا للمُفتي: إنّ أبي ظلمني ففعل كذا وكذا فماذا يلزمُني، أو إنّ زوجي يفعل كذا وكذا فماذا أفعل وما شابه ذلك.
فاحرص أخي المسلم على اجتناب الغيبةِ، هذه العادةِ القبيحةِ، وامسك عليك لسانك واحفظه عن أكل لحوم إخوانك والتفتيشِ عن عيوبهم واشتغل بإصلاح عيوبك عن عيوبهم فإنك متى فعلتَ ذلك قد تُشْغَل حتى لا تجدَ وقـتًـا للاشتغال بعيبِ غيرك، واذكر قولَ النبي صلى الله عليه وسلم: “أكثرُ خطايا ابنِ ءادمَ مِن لسانه” اهـ. رواه الطبراني وقولَه صلى الله عليه وسلم: “عليك بطول الصمتِ إلا مِن خيْرٍ فإنّه مَطْرَدَةٌ للشيطانِ عنك وعونٌ لك على أمر دينك”. رواه ابن حبان.
هذا وأستغفر الله لي ولكم.