يقول الله تعالى {وَٱلَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوٰنِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلإَيمَـٰنِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ} (سورة الحشر/10).
جميلٌ أن نتحدثَ عن الأخلاقِ الفاضلةِ، ورائعٌ أن نكتبَ عن المثُلِ وعظيمِ السجايا (أيِ الخصال)، أن نقرأَ عن الحلمِ والأناة، أو نتحدّثَ عن الجودِ والسخاءِ ونَصِفَ الصدقَ والسماحةَ ، ونعجبَ من كرمِ الكريمِ، وشهامةِ الشهْمِ ، كلُّ ذلك عظيمٌ ، ولكنْ إن كان هذا كلُّهُ في شخصٍ واحدٍ ، فكم ستحمِلُ النفوسُ والقلوبُ لهذا المخلوق من الإجلال والاحترام والمحبة. إنها أمُّ المؤمنينَ السيدةُ خديجةُ بنتُ خويلدِ بنِ أسدِ بن عبدِ العُزّى بنِ قصيٍّ، القرشيةُ الأسديةُ، زوجُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم، أولُ امرأةٍ تزوّجها، وأولُ من أسلم بإجماع المسلمين، لم يتقدمْها رجلٌ ولا امرأةٌ.
كانت تدعى في الجاهليةِ الطاهرةَ، أوْسطُ نساءِ قريشٍ نَسَبًا، وأعظمُهُمن شَرَفًا، وأكثرُهُنْ مالاً، تستأجرُ الرجالَ في مالِها تضاربُهم إياه. ولما بلغها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بلغها من صِدقِ حديثِهِ وعِظَمِ أمانته وكرَمِ أخلاقِه بعثتْ إليه وعرضتْ عليه أن يخرجَ في مالِها إلى الشامِ تاجرًا على أن تُعطيَهُ أفضلَ ما كانتْ تُعطي غيرَهُ من التجارِ، فقبل النبي صلَّى الله عليه وسلم ذلك منها، وتاجر في مالِها، فأضعفَ وأربحَ، ونما مالُها وأفلَحَ.
وكانت خديجةُ امرأةً حازمةً لبيبةً شريفةً مع ما أراد اللهُ منْ كرامتِها، فعرضتْ نفسَها على رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلم، فذكرَ ذلكَ لأعمامِهِ، فخرجَ معهُ عمُّهُ حمزةُ بنُ عبدِ المطلبِ حتى دخلَ على خويلِدٍ بنِ أسدٍ، فخَطَبَها إليهِ، فتزوّجها رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلم وهو ابنُ خمسٍ وعشرينَ سنةً ، وكان عُمُرُها يومئذٍ أربعينَ سنةً.
وقدْ تزوجتْ قبلَهُ برجلينِ، فولدَتْ لرسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلم وَلَدَهُ كُلّهُمْ إلا إبراهيمَ فإنه كان من ماريَةَ القبطية أي بعدما أسلمت لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينكح إلا مسلمة ولا يتسرى الا بمسلمةِ، وأكبرُ أولادِهِ من خديجةَ القاسمُ وبه يُكْنَى صلى الله عليه وسلم ، وعبدُ اللهِ ويسمّى الطاهرَ والطيّبَ، وماتا قبل البعثةِ، أما بناتُه منْها فهنّ رقيةُ أكبرهُنّ ثم زينبُ ثم أمُّ كلثومٍ، ثم فاطمةُ، وكلُّهُنّ أدركْنَ البعثة وهاجَرْنَ معهُ صلَّى الله عليه وسلم. ومن كرامتها عليه صلَّى الله عليه وسلم أنّه لم يتزوجِ امرأةً قبلَها،
ولم يتزوجْ عليها قطُّ، ولا تسرَّى إلى أن قَضَتْ نحبَها ، فوجَدَ (أي حزن) لفَقْدِها، وحَزِنَ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلم حُزنًا شديدًا معَ كاملِ الصبرِ والتسليمِ للهِ ربِّ العالمينَ، حتى سُمِّيَ ذلكَ العامُ بعامِ الحزنِ. وكانتْ رضيَ اللهُ عنها رابطةَ الجأشِ ، عاقلةً مصونةً، ثَبّتَتْ جأشَ النبيِ صلَّى الله عليه وسلم لما فاجأهُ الوحيُ أولَ مرةٍ في غارِ حِراءَ، فرَجَعَ إليها يرجُفُ فؤادُهُ، يقولُ لَها:” زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي” (يقال إن الرسول حصل له خوف طبيعي حين رأى جبريل وذلك لهيبة جبريل، ومعنى خشيت على نفسي أي من المرض أو استدامة المرض) فلم تُفقِدُها شدّةُ الصدمةِ وعيَها، بلْ كلُّها رزانة وتعقُّلٌ، وصبرٌ وتَحَمُّلٌ، ونطقتْ بالحكمةِ، وقامتْ بالخدمةِ، قالتْ لَهُ: “كَلا وَاللَّهِ لا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، وَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ (أيِ التعب) ، وَتُكْسِبُ الْمَعْدُومَ ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ” (كما في كتاب الإيمَان لابْنِ مَنْدَهْ ).
فخفّفَتْ بهذه الكلماتِ الطيباتِ ما كان يَجِدُهُ النبيُ صلَّى الله عليه وسلم في نفسِهِ في ثوانٍ معدوداتٍ، ولم يجفَّ ريقُها رضي الله عنها من هذا الكلامِ حتى انطلقتْ مسرعةً إلى ابنِ عمِّها ورقةَ بنِ نوفلٍ ، تنقلُ لهُ خبرَ ما وقَعَ لزوجِها، فطمأنَها بأنّهُ رسولُ هذه الأمّةِ وأنّ الوحيَ قد جاءَهُ كما جاءَ لموسى ومَنْ قبلَهُ من الأنبياءِ. وهكذا كان لخديجةَ شرفُ الإسلامِ الأولُ، وشرفُ العِلْمِ بالوحيِ المنـزَّلِ وشرفُ احتضانِها لرسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلم بعدَ الأمرِ الذي نابَهُ، وتخفيفِها لشدةِ ما أصابَهُ، وكان هذا دأبُها معه صلَّى الله عليه وسلم حتى ماتتْ. وقد حفظَ لها النبيُ صلَّى الله عليه وسلم هذه الخدمةَ الجليلةَ، فكانَ يذكرُها بِها بعدَ موتِها، وبينَ معاشَرِ أزواجِهِ، يغارُ عليها ويكثر من تعظيمِها ويُثْني عليها.
ومن علاماتِ تعظيمِهِ لخديجةَ أنّه كان يُمضي عهدَها القديمَ بعد موتِها بين نسائِهِ، ويسيرُ بسيرتِها المحمودةِ في عَلاقتِها مع الأهلِ والجيرانِ، وكأنّها معه حاضرةً كأحسنِ ما يعيشُ الزوجانِ، قَالَتِ السيدةُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: “مَا غِرْتُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ، وَمَا رَأَيْتُهَا ، وَلَكِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ ذِكْرَهَا ، وَرُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أَعْضَاءً ، ثُمَّ يَبْعَثُهَا فِي صَدَائِقِ خَدِيجَةَ ، فَرُبَّمَا قُلْتُ لَهُ: كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إِلا خَدِيجَةُ، فَيَقُولُ:”إِنَّهَا كَانَتْ، وَكَانَتْ، وَكَانَ لِي مِنْهَا وَلَدٌ ” رواه البخاري.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
وكم كان ينبعث من وجهِ رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلم البشرُ والسرورُ، لما يحظى بزيارةِ صديقاتٍ لخديجةَ بعد وفاتِها، فما هو إذا رءاهُنّ حتى يطيبَ بذكرِها، وتتحركَ فيه الشجونُ عرفانًا لفضلِها وقَدْرِها. روى البخاريُ ومسلمٌ وغيرُهُما عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ:” اسْتَأْذَنَتْ هَالَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، أُخْتُ خَدِيجَةَ، عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَرَفَ اسْتِئْذَانَ خَدِيجَةَ (أي صفته لشبه صوتها بصوت أختها فتذكر خديجة بذلك) فَارْتَاعَ لِذَلِكَ (تغيّرَ واهتزَّ سُرورًا)، فَقَالَ :”اللَّهُمَّ هَالَةَ” (أي اجعلها يا الله هالةَ، أو: هي هالةُ).
وهكذا فإنّ الجزاء من جنسِ العملِ ، فإنّها رضي الله عنها لما قامتْ بنبيِّ اللهِ (أي خدمته) الذي هو زوجُها خيرَ قيامٍ، وأحسنتْ إليه بإنفاقِها من مالِها عليهِ، ولم تتبرمْ (أي تتضجّر) من معاشرتِها له مع طولِ المدة، بل لم تُسمعْه ما يؤذي منْ قبيحِ الكلامِ وسوءِ الفِعالِ. بل آمنتْ به وصدّقتْهُ وثَبّتَتْهُ وربّتْ أولادَهُ وصبرَتْ على ما يلقاهُ من أذى قومِهِ فأحسنَ إليها النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعد موتِها بدوامِ ذِكْرِها والاستغفارِ لها والثناءِ عليها. ففي الصحيحينِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ:” أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ: ” يَا رَسُولَ اللَّهِ : هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ ، أَوْ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ ، فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلاَمَ مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ لاَ صَخَبَ فِيهِ، وَلاَ نَصَبَ”.وكان ذلك في حياتِها رضي اللهُ عنها. زاد الطبرانيُّ في الروايةِ المذكورةِ: فَقَالَتْ:” هُوَ السَّلامُ وَمِنْهُ السّلامُ وَعَلَى جِبْرِيلَ السَّلامُ “. وللنسائيِّ من حديثِ أَنَسٍ قَالَ:” جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعِنْدَهُ خَدِيجَةُ قَالَ:” إِنَّ اللَّهَ يُقْرِئُ خَدِيجَةَ السَّلامَ ” فَقَالَتْ: “إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلامُ (أيِ السالِمُ من كلِّ نقصٍ وعيبٍ)، وَعَلَى جِبْرِيلَ السَّلامُ، وَعَلَيْكَ السَّلامُ، وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ”.
فرضي الله عنها وأرضاها وأكرم مثواها وحشرنا معها تحت لواء حبيبه محمد صلَّى الله عليه وسلم.