صاحبة ترجمتنا هذه صحابية مشهورة معروفة من بيت طهارة ونسب وشرف، وعراقة مجد وحسب ومروءة وسؤدد، إنها ثمرة طاهرة تلقت العناية والرعاية، ونشأت في أطهر بيت، وأتت من خير نسب، إنها السيدة زينب الكبرى بنت النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم. أمها السيدة خديجة بنت خويلد، كانت أكبر بناته صلوات الله وسلامه عليه، ورضي الله عنهن.
قال محمد بن إسحق: سمعت عبد الله بن محمد بن سليمان الهاشمي يقول: ولدت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنة ثلاثين من مولد النبي صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عمير: كانت زينب رضي الله عنها أكبر بنات النبي صلى الله عليه وسلم لا خلاف أعلمه في ذلك إلا ما لايصح ولا يلتفت إليه، إنما الاختلاف بين زينب والقاسم أيهما ولد له صلى الله عليه وسلم أولاً، فقالت طائفة من أهل العلم بالنسب: أول من ولد له صلى الله عليه وسلم ابنه القاسم ثم زينب. وقال ابن الكلبي: زينب ثم القاسم. قال بعض أهل الحديث: كانت زينب أول مولود عمر به بيت النبوة، فما أشد مارغبت السيدة خديجة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن تحمل بمولود تدخل به السرور الى قلب سيد المرسلين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
لم تتجاوز السيدة زينب العاشرة من عمرها حتى تنافست قبائل قريش، وبيوتات مكة وأشرافها على خطبتها للظفر بها عروسًا، وكان من أولئك المتنافسين رجل تهيأت له الفرصة المؤاتية لهذا أكثر من غيره بحكم القرابة التي بينه وبين زينب، وهو أبو العاص بن الربيع، ابن الخالة، فخالته السيدة خديجة التي كانت تحبه وتنـزله منـزلة الابن لها. وأبو العاص هو ابن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، وأمه هالة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي. وقد حسم هذه المنافسة أبو العاص نفسه حين أفصح عن مكنوناته نفسه، وباح بسره لخالته خديجة، وأبدى لها الرغبة في التزوج بزينب. ويذهب أبو العاص إلى النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم ويعرب عن رغبته في الزواج بابنته زينب، ويشاور رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته ويسألها إن كانت ترضى بابن خالتها زوجا لها، فيمنعها الحياء من الجواب، ويمسك لسانها عن الرد، فيعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من صمتها قبولها، فيعود لأبي العاص ويصافحه مهنئًا ومباركًا.
وأبو العاص حامل لقب صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم هو رجل قرشي صميم، يلتقي نسبه من جهة الأب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عند عبد مناف بن قصي كما أسلفنا، ويلتقي نسبه من جهة الأم مع زينب بنت محمد صلى الله عليه وسلم عند جدهما الأدنى خويلد بن أسد بن عبد العزى ابن قصي. عاش الزوجان عيشة هانئة ملؤها السعادة والرضا، وكان زواجهما قبل النبوة، وأفاض الله عليهما الفرح والغبطة لما من عليهما بأول مولودة لهما، سماها جدها أمامة، فكانت لهما قرة عين، ثم رزقهما الله مولودا ءاخر سمياه عليًا.
وقال بعض أصحاب السير: ولدت زينب لأبي العاص عليًا، وأمامة فتوفي علي وهو طفل صغير، وبقيت أمامة فتزوجها علي بن أبي طالب بعد وفاة السيدة فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأمامة هي التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحملها على عاتقه وهو يصلي.
محنة السيدة زينب رضي الله عنها
لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصدح بالحق في أرجاء مكة دخل الإيمان قلب زينب فشهدت بلسانها شهادة التوحيد بعد أن صدق قلبها. وعرضت على زوجها أبي العاص أن يشهد شهادة الحق ويدخل في دين الله إلا أنه أبى، وقال لها: لو تبعته لقال القوم: فارق دين آبائه إرضاء لزوجته وحميه، ولو خالفته …..فقاطعته زينب قائلة: ولكنك لن تدع كلام قومك يَثنيك عن الحق فأُسقط في يده ولم يتكلم. وكان يقول لها: والله ما أبوك عندي بمتّهم، وليس أحب إلي من أن أسلك معك في شِعْب واحد، ولكني أكره لك أن يقال: إن زوجك خذل قومه، وكفر بآبائه إرضاء لامرأته، فهلا قدّرت وعذرت.
هاجرت أختاها أم كلثوم وفاطمة إلى المدينة، وقبلهما هاجرت رقية، وبقيت زينب وحدها تبكي فراق الأحبة، رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هاجر كذلك أخواتها رقية وأم كلثوم وفاطمة، وهاهي أمها توفيت. بعد الهجرة حصلت غزوة بدر وفيها من الفريقين أهل وأبناء عم، فريق رفع راية التوحيد، راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، وفريق صُمَّت آذانهم وعميت أبصارهم وأقفلت قلوبهم عن رؤية الهداية، ورفضوا السير على درب النور والهدى فحاربوا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وفي هذا الفريق كان زوج زينب أبو العاص.
وجاءت أخبار غزوة بدر بالنصر المبين لمحمد صلى الله عليه وسلم وصحبه من المهاجرين والأنصار فتفرح زينب بنصر المؤمنين، إلا أنهم أخذوا من لم يُقتل في المعركة أسرى، وفيهم أبو العاص.
وبالسند إلى عامر الشعبي رضي الله عنه، عن السيدة عائشة رضي الله عنها أن أبا العاص بن الربيع زوج زينب بنت النبي محمد صلى الله عليه وسلم كان في من شهد بدرًا مع المشركين فأسره عبد الله ابن جبير بن النعمان الأنصاري، فلما بعث أهل مكة في فداء أسراهم، تقدم أخوه عمرو بن الربيع من النبي صلى الله عليه وسلم بصرة كانت بعثتها زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي يومئذ بمكة، فيها قلادة لها، كانت للسيدة الجليلة خديجة بنت خويلد أدخلتها بتلك القلادة على أبي العاص، حين بنى بها يوم عرسها.
فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم القلادة عرفها وذكر خديجة وترحم عليها، وقال: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها الذي لها فافعلوا. رواه أحمد بن حنبل في مسنده. فهتف المسلمون: نعم يا رسول الله قد فعلنا حبًا وكرامة، فأطلقوا أبا العاص بن الربيع من الأسر، وردوا على زينب قلادتها، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم على أبي العاص أن يخلي سبيلها إليه، يعني طلب منه مفارقة زينب، فوعده بذلك، ولما عاد إلى مكة فارق زينب التي توجهت إلى المدينة، تحمل في أحشائها جنينًا في شهره الرابع برفقة كنانة شقيق أبي العاص. لكنّ المشركين أبوا إلا أن يَلبَسوا ثوب الخزي والعار، حين خرجوا معترضين بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وامتدت أيديهم إلى زينب بقصد منعها من الخروج للمدينة. فقام هبّار بن الأسود ورجل ءاخر، فدفعها أحدهما في ماذكروا، فسقطت على صخرة من على جملها، وسالت الدماء على رمال الصحراء.
وأحس المشركون بفداحة فعلتهم وأذيتهم لابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعادوا وخلوا لها الطريق وسمحوا لها بالهجرة، فهاجرت، ووصلت إلى المدينة المنورة، حيث استقبلها المسلمون فرحين بقدومها إلى هذا البلد الطيب الذي فتح ذراعيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته من المهاجرين.
زينب رضي الله عنها في المدينة
مضت ست سنوات على السيدة زينب رضي الله عنها في المدينة وهي تنتظر أن يسلم زوجها فتنعم بقربه مع ولديه. وفي يوم من الأيام، يدخل أبو العاص بن الربيع على زينب فجرًا، ليس مسلمًا كما تمنت، وإنما مطارَدًا من الصحابة بعد أن صادروا القافلة التي كان خارجًا للتجارة بها، ويدخل على زينب مستجيرًا بها فقالت زينب: أيها الناس، إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع، ويسمع رسول الله وصحابته صوتها، وما إن تنتهي الصلاة حتى تتقدم من أبيها باكية وهي تقول: يارسول الله، إن قَرُب فابن عم، وإن بعد فأبو ولد، وإني قد أجرته، فأجاره النبي الكريم صلى الله عليه وسلم والمسلمون، وأعاد الصحابة أموال القافلة إليه.
وعاد أبو العاص إلى مكة وهو يضمر أمرًا، فلما وصل إلى مكة، ومعه القافلة، سارع المشركون بالتهنئة لنجاته ونجاة القافلة، وأعطى كلَّ شخص منهم مالَه، وبعد ذلك نادى، يامعشر قريش، هل بقي لأحد منكم عندي مال لم يأخذه؟ فأجابوا: لا، ثم أدار فيهم بصره وأطلق صوته مرددًا كلمة التوحيد: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، والله ما منعني من الإسلام إلا تخوف أن تظنوا أني أردت أن ءاكل أموالكم، فلما أداها الله إليكم وفرغت منها أسلمت. وانطلق مهاجرًا في سبيل الله إلى المدينة، وكان اللقاء بزينب وولديه عليّ وأمامة تحت مظلة التوحيد. وذكر ابن الأثير الجزري في ترجمة زينب بنت رسول الله النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم أن زينب ماتت سنة ثمان من الهجرة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة.
وهكذا لم يطل كثيرًا لقاء زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي العاص، فبعد مضي عام واحد على لقائهما ماتت رضي الله عنها متأثرة بعلتها التي أصابتها أثناء هجرتها بعد أن أسقطت عن جملها، وخسرت جنينها. وقد شيعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته ودفنت بالبقيع.
رضي الله عنها وجمعنا بها في جنات النعيم ءامين.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website